الجمعة، 24 يونيو 2011

حينما تغرب الشمس..



أشرقت الشمس, فوق قبة ذاك البساط اللازوردى الجميل, فى تلك المدينة الفلسطينية الصغيرة, الواقعة قريباً من البحر المتوسط. وما إن أشرقت حتى انطلقت الطيور من أوكارها, والعصافير من أعشاشها مترنمة بذاك الصباح البهيج, وبتلك الشمس الجميلة, التى أضفت على الحقول فى الأسفل أشعتها الذهبية كاللؤلؤ المنثور..

وفى بيت صغير جميل على جانب الحقول, استيقظ (كفاح) الصغير, وانطلق إلى أمه يحييها, وبعد إفطار سعيد, انطلق إلى الحقول كما عادته, ليلهو مع رفقائه الصغار فى الجوار ( آمال ومحمود وربحى)..

فى تلك الحقول الهادئة, لعبوا معاً ما طاب لهم اللعب, فانطلقوا وراء الفراشات إلى عنان السماء, ووراء العصافير إلى منتهى البصر..
ضحك ( كفاح) من ذاك المنظر البهيج, وشاركه رفقاؤه الصغار ضحكه البرئ..


ولكن, يبدو أن هناك من أغضبه ضحك (كفاح), وسعادة رفقائه, هناك من أغضبه أن يحيوا حياة سعيدة كما باقى الصغار فى العالم..
فسقط شئ رهيب من السماء, مخلفاً وراءه صوتاً قوياً, وهبط ذاك الشئ بالقرب من دار (كفاح), فانتفض من فراشه خائفاً مذعوراً, وانطلق إلى أمه يحتمى بها من ذاك الشئ المجهول..

وبعد فترة, هدأ الوضع, ( أماه إننى جائع) كانت تلك كلمات كفاح الصغير, فشعرت الأم بقبضة من الحزن الأليم تعتصرها؛ إذ لم يكن لديها فى الدار ما يطفئ جوع النملة..

ولكنها تمالكت نفسها, وقالت بصوتها الحنون: " كفاح, أحب أن أخبرك شيئاً, أى بنى الحبيب, اعلم أنه حينما تغرب الشمس, فهناك شمس ستشرق عما قريب, عندما ينهدم البيت, فثق أن قصراً منيفاً سيبنى عما قريب, حين يعتدى احدهم على أرضك, فاعلم أنك يوماً ما سوف تسترد كل شبر منها, ولو حتى بعد حين,وليس المهم من يضحك أولاً, فمن يضحك أخيراً يضحك كثيراً, واعلم يا بنى أن لك رباً قادراً على كل شئ, ومطلعاً على كل شئ, وثق بأن أحداً لن يلومك إذا ما طالبت بحقك وسعيت خلفه؛ فالعين بالعين, والسن بالسن, والبادئ أظلم"..

أنهت الأم حديثها المشحون بالأمل والقوة, فنظر إليها صغيرها باسماً وقال :" صدقت يا أماه, والله ما قنطت من رحمة الله قط, وما ضاعت ثقتى بعلمه وقدرته قط"..

وما إن انهى حديثه, حتى عاود ذاك الشئ هجومه الرهيب, محدثاً صوتاً شعر به كفاح يتغلغل فى أعماقه, ويهز كيانه كله, شعر بأذنيه تنفجران, ولم يتمكن من التحمل, فصرخ صرخة داوية, ارتمى فى حضن أمه خائفاً فزعاً, وشعر كفاح بالبيت يهتز, وبانفجار رهيب فى الجوار, لم يدر كنهه ولا أثره, وما إن هدأ الوضع حتى انطلق إلى الخارج يستطلع ما حدث..

وما إن خطا خطوة خارجاً, حتى هاله ما رأى, فهناك ليس ببعيد عنه, وجد بيت رفيقه (عدىّ) مهدماً, قد تبعثرت محتوياته, وتحطمت جوانبه..

فانطلق إلى هناك يبحث عن رفيقه المحبوب, وما إن وصل إلى تلك الأطلال, حتى رأى صديقه الصغير ملقى على الأرض, وإلى جواره إخوته ووالديه, قد ماتوا جميعاً, واصطبغت الأرض من حولهم بالحمرة القانية, وفيما هو يعانى هول الصدمة, عاود الصهيونيون هجومهم العنيف, وأطلقوا قنابلهم المخيفة على الكثير من البيوت..

فجرى كفاح عائداً إلى بيته الصغير ليطمئن على أهله..

وقبل أن يصل بقليل, أصابته رصاصة فى ساقه, فتهاوى على الأرض متألماً, شعر بساقه تحترق, وبتلك الرصاصة تمزقها بلا هوادة, مخلفة وراءها ألماً رهيباً لا يطاق, ولكنه تحامل على نفسه, واستكمل طريقه إلى منزله..

وهناك, ليس ببعيد عن مقصده, وجد بيته تماماً كما كان بيت (عدىّ), مهدماً قد استحال أنقاضاً, فأسرع إليه, وهناك رأى أمه ممدة على الأرض, وقد فارقتها الحياة, وإلى جانبها إخوته الأحباء..

أهؤلاء هم أهله الأحباب الراقدون هناك بين التراب والدم؟؟ أهذا هو بيته الذى طالما حفل بالحياة ونبض بالسرور؟؟

شعر كفاح بشعور غريب يجتاحه, هو مزيج من الخوف والألم والغضب والثورة, هو خليط من الحزن والضياع والتمرد على الواقع..

ولكن, وفى داخله, انبعث صوت والدته الحنون يكرر على مسامعه:" حينما ينهدم البيت ,فثق أن قصراً منيفاً سيبنى عما قريب, حين يعتدى أحدهم على أرضك, فاعلم أن يوماً, وهو ليس ببعيد, سوف تسترد كل شبر منها"..

فثارت نفسه, وأقسم بكل ما بقى فى جسده الضئيل من قوة أنه فى يوم قريب سوف ينتقم لأهله وإخوته, ولعدىّ وأهله, ولكل فلسطينى على أرض الوطن الحبيب..

وبين الحطام, وجد كفاح لوحة صغيرة, كانت معلقة على جدار البيت, وطالما قضى الوقت أمامها يتدرب على قراءتها وحفظها, فأخذها ونظر إليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع..

ومن بين عبراته المتساقطة, أخذ يقرأ ما كتب على اللوحة..
"
والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"..


وبعيداً, فوق المنازل المهدمة, والأنقاض المبعثرة, اصطبغت السماء بحمرة قانية, خلفتها تلك الشمس الغاربة, حمرة لشد ما كانت تشبه تلك التى اصطبغت بها الأرض فى الأسفل, وكأنما السماء تشارك هذه المنطقة هول الفاجعة,, وتردد مع الأهل:
" هناك شمس ستشرق, حينما تغرب الشمس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق