الجمعة، 24 يونيو 2011

نداء للقمر

مدخل//
فى حين من الأحيان..

ينظر المرء خلفه,,

فلا يرى سوى سواداً قاتماً..

وليلاً غامضاً بهيماً..

و بقايا ذكريات بين أيام أليمة..
***************

جلست تحت ضوء القمر.. منذ متى؟ وإلى متى؟ لا أدرى, بل لعلى لا أهتم..

جلست تحت شجرة تناثرت أوراقها , كما تبعثرت أفكارى المشتتة.

ما أبشع هذه الحياة. أحياناً نظن أننا ملكنا السعادة , وفى لحظة واحدة يذهب كل شئ أدراج الرياح, فكأنه لم يكن سوى فى أحلام بعثرها الهواء..

نظرت إلى القمر, أنيسى الوحيد فى هذا المكان الموحش,, بل لعله أنيسى الوحيد فى حياتى المقفرة..

شكوت إليه, يا قمر, قد سئمتنى الحياة,,

قد نبذنى الناس..

أأنا سيئة إلى هذا الحد؟

أأنا كما يقولون أنانية لاأهتم ولا أبالى بغير نفسى؟؟

لطالما كنت أقول،، يوما ما سأكون مثلك،، أبعث إلى الحياة هالة من النور المشرق،،

فوجدتنى حتى لا أستطيع أن أطرد دياجير الظلام من دواخل نفسى المظلمة..

أترانى لا أستحق مثل هذا النور؟؟

حينها وجدت القمر ينظر إلىّ,, ابتسم معاتباً..

ماذا تقولين؟؟

لعل فى الحياة أناس كما تقولين,, ولكنهم كما أوراق الشجر فى الخريف.. سرعان ما يذهبون.. ويبقى أولئك الذين يستحقون الحياة.. أولئك الذين عمرت قلوبهم بالإيمان, وبالتضحية والإخلاص..

إنهم قابلتهم من الصعاب مثل ما تقولين أو لعله أبشع..

لكنهم تذرعوا بالأمل وتمسكوا بالدين,, ووثقوا فى رحمة الله..

فهم يعرفون أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون..

لعلك لا تدركين أن ذاك النور إنما خلق لكل كائن..

بشراً كان أم حجراً..

نهراً كان أم قمراً..

لكن،، لا يناله سوى ذاك الذى طالما وثق من وجوده فى أرجاء قلبه..

فى ممرات عقله الخفية.. حتى عليه..

حينها, شعرت بالحياة تدب فى أوصالى اليائسة..

حقاً إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون..

فنظرت إلى القمر مبتسمة..

أعدك أننى لن أعود لمثل ما قلت,, لن أشعر باليأس ..

بل سيكون هناك الأمل.. والأمل فحسب...

حينها ابتسم القمر وابتسمت معه..

وعدت إلى دروب الحياة.. لأحقق ما وعدت به هذا القمر الرائع الجميل

مخرج//

ربما فى بعض الأحيان..

تظلم الدنيا فى وجه المرء..

ولكن قليلين هم من يقولون..

قد أظلمت عيناى وليست الدنيا..

وسوف أعيد النور إليهما..

ليرجع المرء ينظر خلفه،،

فيرى أروع ما يحب..

النـــــــــــور..

حين تشتاق إليهما..

انحنى شاب مديد القامة، ارتسمت على وجهه ملامح التعب والإجهاد، وقد ارتدى زى الأطباء ، على أحد الجرحى فى المستشفى الميدانى الصغير فى ميدان التحرير، كان الجريح مصاباً بشدة، فقد أصيب برصاصة أفقدته إحدى عينيه، ثم خرجت من مؤخرة رأسه تاركة إيه مهشماً تقريباً..
أخذ الطبيب يحاول علاج جروحه المتعددة، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الحزن والإشفاق، فما كان الجريح سوى طفل صغير، لا يكاد يتجاوز الحادية عشرة من عمره، ورغم جروحه المؤلمة، فإن الصغير لم تبد عليه أية سمة من سمات الألم والمعاناة..
كان دائم النظر إلى السقف، يتمتم فى بعض الأحيان بكلمات غير مفهومة ثم يبتسم،، ولم يكن يخرج من حالته تلك إلا لينظر إلى ذاك الطبيب الشاب المدعو ( عصام) والذى أخذ يحاول معالجته جاهداً، فيبتسم له، ويحرك شفتيه الجافتين بكلمة شكر له..

وكان الطبيب يشعر بالدهشة من تلك الحالة التى كان الصغير عليها،
-" هل لى أن أسألك سؤالاً؟" قال عصام ذلك..
- " بالطبع يا دكتور عصام، تفضل "
- " لماذا أنت دائم النظر إلى السقف هكذا؟"
" دعنى أخبرك بقصتى وسوف تدرك السبب"
- " كلى آذان مصغية"
- تنهد الصغير وبدأ قصته المؤلمة: " أنا من أسرة مصرية عادية، كنت أعيش مع والدىّ وأخى الأكبر فى بيت صغير، وكأى أسرة، كنا نعانى من الفساد الجاثم على صدورنا منذ ثلاثة عقود، فما إن اندلعت شرارة الثورة حتى كنا معاً من أوائل من شاركوا فيها، كنا ننزل يومياً إلى ميدان التحرير، فنشعر أن مصر بعثت من جديد، لكى تنقذ أبناءها من أولئك الطغاة، بعد أن ظن الجميع أنها لن تعود..
كانت أسعد لحظات حياتى حين أجلس مع الجميع فى ميدان التحرير فنطالب بمطالبنا العادلة..
حتى كان يوم الجمعة التى اصطلح الجميع على تسميتها ( جمعة الغضب)، وكما تعرف، فقد عمّ الاضطراب جميع الأنحاء فى ذلك اليوم، واعتقل وقتل الكثيرون، وأصيب الأكثر..

كنت واقفاً مع أسرتى بين المتظاهرين، كنا ندافع عن أنفسنا بكل ما تصل إليه أيدينا من حجارة هدمتها مدافع الشرطة الجائرة،، وبينما نحن كذلك،، إذا بى أجد أخى الأكبر يندفع نحوى، ثم يسقط على الأرض جاذباً إياى معه،، وعندما فتحت عينىّ، صرخت من هول الصدمة، وإنى ما زلت أرتعد هولاً وحزناً كلما تذكرت ذاك المشهد، فعلى مرمى بصرى، رأيت أبوىّ الحبيبن وقد اصيبا بطلقات نارية،، لم أتحمل المنظر، فأخذت أبكى بكاء مراً ، ولكن أخى احتضننى،برفق قائلاً:" ثق أخى الحبيب بأنهما لن يفارقانا، نحن عائلة، والعائلة تعنى ألا ننسى أحداً منا ، وألا يفارق بعضنا بعضاً، حتى وإن تعذرت الرؤية،، حين تشتاق إليهما، فانظر إلى السماء ، وتأكد أنهما موجودان، وأنهما فخوران بك، والآن هيا لنبتعد، فالمكان ليس آمناً هنا"
أخذت أجر قدمى جراً، وأغلب ظنى أننى ما كنت لأنصرف بعيداً عن أبوىّ لولا وجود أخى الحبيب إلى جانبى، وبعد الجرى الطويل، وقفنا نلتقط أنفاسنا اللاهثة، فإذا بنا نجد بعضاً من رجال الأمن وقد هجموا علينا رغبة فى اعتقالنا، صرخ أخى فىّ قائلاً"  اهرب يا علاء، اهرب، واجعلنا نفخر بك"
كنت أشعر بالذعر لدرجة لم أتمكن معها سوى من تنفيذ الأمر، فأطلقت ساقى للريح وأنا أنظر خلفى بين الفينة والأخرى، فوجدت أخى يحاول تعطيلهم عن اللحاق بى، ومنذ ذلك الحين، لم أر أخى الحبيب ولم أسمع عنه خبرا..

امتلأت نفسى حزنا وغما، وشعرت أننى وحيد فى هذه الدنيا، حينها رنّ فى أذنىّ صوت أخى الحنون ( نحن عائلة، والعائلة تعنى ألا ننسى أحدا منا، وألا يفارق بعضنا بعضاً وحتى إن تعذرت الرؤية) حينها عدت إلى الميدان، وانضممت إلى المتظاهرين، وشعرت بنفسى تعود إلىّ من جديد، وبينما أنا هناك، إذا بطلقات عنيفة تنهال علينا، وكأنما السماء فتحت طاقتها فانهمر المطر غزيراً، لم أستطع أن أتصرف، فقد ألجم عقلى من المفاجأة، فلم أشعر إلا وشئ يندفع فى عينى ثم يخرج من الخلف تاركنى وراءه فى حالة يرثى لها وأنا أنظر إلى الأشياء بعين واحدة ما لبثت أن أغمضت حين فقدت الرشد، وعندما استيقظت وجدتنى هنا، وأنت تعرف الباقى..

نظر إليه الدكتور بحنان، فوجده قد أغمض عينه السليمة، وتتابعت أنفاسه فى صدره وكأنما قد بذل آخر جهده للإفضاء بهذا الحديث،، فربت على كتفه وهو يغالب دموعه وقال له :" لا عليك يا صغيرى، لن ترى منذ اليوم إلا ما يسعدك ، لقد تنحى الرئيس والأفراح تعم البلاد، ..
وما إن أتم جملته حتى أتت إحدى الممرضات وقالت:" إن شخصاً يدعى أحمد يسأل عن علاء الصغير"..
فتح علاء عينه وهتف بشوق :" أحمد، أخى أحمد"..
فسمع أخوه هذا النداء، وانطلق إليه غير عابئ بالجروح المؤلمة التى أصيب بها فى جسده..

وكان اللقاء بينهما مملوءاً بأروع المشاعر السعيدة والحزينة معاً،، فكانت دموعهما تسيل وهما يضحكان، وقال أحمد :" لقد نجحنا يا علاء، لقد تحررنا أخيراً، الآن يفخر بنا والدانا"
نظر علاء إلى السقف من جديد، وابتسم، ثم قال :" أخيراً أشعر أننى فى بلدى من جديد، وأن شيئاً لن يضايقنا بعد الآن"..

ثم خرج يتساند إلى أخيه ،، إلى حيث الأفراح والبهجة التى عمت جميع الأنحاء، احتفالاً بذلك النصر العظيم

حينما تغرب الشمس..



أشرقت الشمس, فوق قبة ذاك البساط اللازوردى الجميل, فى تلك المدينة الفلسطينية الصغيرة, الواقعة قريباً من البحر المتوسط. وما إن أشرقت حتى انطلقت الطيور من أوكارها, والعصافير من أعشاشها مترنمة بذاك الصباح البهيج, وبتلك الشمس الجميلة, التى أضفت على الحقول فى الأسفل أشعتها الذهبية كاللؤلؤ المنثور..

وفى بيت صغير جميل على جانب الحقول, استيقظ (كفاح) الصغير, وانطلق إلى أمه يحييها, وبعد إفطار سعيد, انطلق إلى الحقول كما عادته, ليلهو مع رفقائه الصغار فى الجوار ( آمال ومحمود وربحى)..

فى تلك الحقول الهادئة, لعبوا معاً ما طاب لهم اللعب, فانطلقوا وراء الفراشات إلى عنان السماء, ووراء العصافير إلى منتهى البصر..
ضحك ( كفاح) من ذاك المنظر البهيج, وشاركه رفقاؤه الصغار ضحكه البرئ..


ولكن, يبدو أن هناك من أغضبه ضحك (كفاح), وسعادة رفقائه, هناك من أغضبه أن يحيوا حياة سعيدة كما باقى الصغار فى العالم..
فسقط شئ رهيب من السماء, مخلفاً وراءه صوتاً قوياً, وهبط ذاك الشئ بالقرب من دار (كفاح), فانتفض من فراشه خائفاً مذعوراً, وانطلق إلى أمه يحتمى بها من ذاك الشئ المجهول..

وبعد فترة, هدأ الوضع, ( أماه إننى جائع) كانت تلك كلمات كفاح الصغير, فشعرت الأم بقبضة من الحزن الأليم تعتصرها؛ إذ لم يكن لديها فى الدار ما يطفئ جوع النملة..

ولكنها تمالكت نفسها, وقالت بصوتها الحنون: " كفاح, أحب أن أخبرك شيئاً, أى بنى الحبيب, اعلم أنه حينما تغرب الشمس, فهناك شمس ستشرق عما قريب, عندما ينهدم البيت, فثق أن قصراً منيفاً سيبنى عما قريب, حين يعتدى احدهم على أرضك, فاعلم أنك يوماً ما سوف تسترد كل شبر منها, ولو حتى بعد حين,وليس المهم من يضحك أولاً, فمن يضحك أخيراً يضحك كثيراً, واعلم يا بنى أن لك رباً قادراً على كل شئ, ومطلعاً على كل شئ, وثق بأن أحداً لن يلومك إذا ما طالبت بحقك وسعيت خلفه؛ فالعين بالعين, والسن بالسن, والبادئ أظلم"..

أنهت الأم حديثها المشحون بالأمل والقوة, فنظر إليها صغيرها باسماً وقال :" صدقت يا أماه, والله ما قنطت من رحمة الله قط, وما ضاعت ثقتى بعلمه وقدرته قط"..

وما إن انهى حديثه, حتى عاود ذاك الشئ هجومه الرهيب, محدثاً صوتاً شعر به كفاح يتغلغل فى أعماقه, ويهز كيانه كله, شعر بأذنيه تنفجران, ولم يتمكن من التحمل, فصرخ صرخة داوية, ارتمى فى حضن أمه خائفاً فزعاً, وشعر كفاح بالبيت يهتز, وبانفجار رهيب فى الجوار, لم يدر كنهه ولا أثره, وما إن هدأ الوضع حتى انطلق إلى الخارج يستطلع ما حدث..

وما إن خطا خطوة خارجاً, حتى هاله ما رأى, فهناك ليس ببعيد عنه, وجد بيت رفيقه (عدىّ) مهدماً, قد تبعثرت محتوياته, وتحطمت جوانبه..

فانطلق إلى هناك يبحث عن رفيقه المحبوب, وما إن وصل إلى تلك الأطلال, حتى رأى صديقه الصغير ملقى على الأرض, وإلى جواره إخوته ووالديه, قد ماتوا جميعاً, واصطبغت الأرض من حولهم بالحمرة القانية, وفيما هو يعانى هول الصدمة, عاود الصهيونيون هجومهم العنيف, وأطلقوا قنابلهم المخيفة على الكثير من البيوت..

فجرى كفاح عائداً إلى بيته الصغير ليطمئن على أهله..

وقبل أن يصل بقليل, أصابته رصاصة فى ساقه, فتهاوى على الأرض متألماً, شعر بساقه تحترق, وبتلك الرصاصة تمزقها بلا هوادة, مخلفة وراءها ألماً رهيباً لا يطاق, ولكنه تحامل على نفسه, واستكمل طريقه إلى منزله..

وهناك, ليس ببعيد عن مقصده, وجد بيته تماماً كما كان بيت (عدىّ), مهدماً قد استحال أنقاضاً, فأسرع إليه, وهناك رأى أمه ممدة على الأرض, وقد فارقتها الحياة, وإلى جانبها إخوته الأحباء..

أهؤلاء هم أهله الأحباب الراقدون هناك بين التراب والدم؟؟ أهذا هو بيته الذى طالما حفل بالحياة ونبض بالسرور؟؟

شعر كفاح بشعور غريب يجتاحه, هو مزيج من الخوف والألم والغضب والثورة, هو خليط من الحزن والضياع والتمرد على الواقع..

ولكن, وفى داخله, انبعث صوت والدته الحنون يكرر على مسامعه:" حينما ينهدم البيت ,فثق أن قصراً منيفاً سيبنى عما قريب, حين يعتدى أحدهم على أرضك, فاعلم أن يوماً, وهو ليس ببعيد, سوف تسترد كل شبر منها"..

فثارت نفسه, وأقسم بكل ما بقى فى جسده الضئيل من قوة أنه فى يوم قريب سوف ينتقم لأهله وإخوته, ولعدىّ وأهله, ولكل فلسطينى على أرض الوطن الحبيب..

وبين الحطام, وجد كفاح لوحة صغيرة, كانت معلقة على جدار البيت, وطالما قضى الوقت أمامها يتدرب على قراءتها وحفظها, فأخذها ونظر إليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع..

ومن بين عبراته المتساقطة, أخذ يقرأ ما كتب على اللوحة..
"
والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"..


وبعيداً, فوق المنازل المهدمة, والأنقاض المبعثرة, اصطبغت السماء بحمرة قانية, خلفتها تلك الشمس الغاربة, حمرة لشد ما كانت تشبه تلك التى اصطبغت بها الأرض فى الأسفل, وكأنما السماء تشارك هذه المنطقة هول الفاجعة,, وتردد مع الأهل:
" هناك شمس ستشرق, حينما تغرب الشمس