الجمعة، 24 يونيو 2011

حين تشتاق إليهما..

انحنى شاب مديد القامة، ارتسمت على وجهه ملامح التعب والإجهاد، وقد ارتدى زى الأطباء ، على أحد الجرحى فى المستشفى الميدانى الصغير فى ميدان التحرير، كان الجريح مصاباً بشدة، فقد أصيب برصاصة أفقدته إحدى عينيه، ثم خرجت من مؤخرة رأسه تاركة إيه مهشماً تقريباً..
أخذ الطبيب يحاول علاج جروحه المتعددة، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الحزن والإشفاق، فما كان الجريح سوى طفل صغير، لا يكاد يتجاوز الحادية عشرة من عمره، ورغم جروحه المؤلمة، فإن الصغير لم تبد عليه أية سمة من سمات الألم والمعاناة..
كان دائم النظر إلى السقف، يتمتم فى بعض الأحيان بكلمات غير مفهومة ثم يبتسم،، ولم يكن يخرج من حالته تلك إلا لينظر إلى ذاك الطبيب الشاب المدعو ( عصام) والذى أخذ يحاول معالجته جاهداً، فيبتسم له، ويحرك شفتيه الجافتين بكلمة شكر له..

وكان الطبيب يشعر بالدهشة من تلك الحالة التى كان الصغير عليها،
-" هل لى أن أسألك سؤالاً؟" قال عصام ذلك..
- " بالطبع يا دكتور عصام، تفضل "
- " لماذا أنت دائم النظر إلى السقف هكذا؟"
" دعنى أخبرك بقصتى وسوف تدرك السبب"
- " كلى آذان مصغية"
- تنهد الصغير وبدأ قصته المؤلمة: " أنا من أسرة مصرية عادية، كنت أعيش مع والدىّ وأخى الأكبر فى بيت صغير، وكأى أسرة، كنا نعانى من الفساد الجاثم على صدورنا منذ ثلاثة عقود، فما إن اندلعت شرارة الثورة حتى كنا معاً من أوائل من شاركوا فيها، كنا ننزل يومياً إلى ميدان التحرير، فنشعر أن مصر بعثت من جديد، لكى تنقذ أبناءها من أولئك الطغاة، بعد أن ظن الجميع أنها لن تعود..
كانت أسعد لحظات حياتى حين أجلس مع الجميع فى ميدان التحرير فنطالب بمطالبنا العادلة..
حتى كان يوم الجمعة التى اصطلح الجميع على تسميتها ( جمعة الغضب)، وكما تعرف، فقد عمّ الاضطراب جميع الأنحاء فى ذلك اليوم، واعتقل وقتل الكثيرون، وأصيب الأكثر..

كنت واقفاً مع أسرتى بين المتظاهرين، كنا ندافع عن أنفسنا بكل ما تصل إليه أيدينا من حجارة هدمتها مدافع الشرطة الجائرة،، وبينما نحن كذلك،، إذا بى أجد أخى الأكبر يندفع نحوى، ثم يسقط على الأرض جاذباً إياى معه،، وعندما فتحت عينىّ، صرخت من هول الصدمة، وإنى ما زلت أرتعد هولاً وحزناً كلما تذكرت ذاك المشهد، فعلى مرمى بصرى، رأيت أبوىّ الحبيبن وقد اصيبا بطلقات نارية،، لم أتحمل المنظر، فأخذت أبكى بكاء مراً ، ولكن أخى احتضننى،برفق قائلاً:" ثق أخى الحبيب بأنهما لن يفارقانا، نحن عائلة، والعائلة تعنى ألا ننسى أحداً منا ، وألا يفارق بعضنا بعضاً، حتى وإن تعذرت الرؤية،، حين تشتاق إليهما، فانظر إلى السماء ، وتأكد أنهما موجودان، وأنهما فخوران بك، والآن هيا لنبتعد، فالمكان ليس آمناً هنا"
أخذت أجر قدمى جراً، وأغلب ظنى أننى ما كنت لأنصرف بعيداً عن أبوىّ لولا وجود أخى الحبيب إلى جانبى، وبعد الجرى الطويل، وقفنا نلتقط أنفاسنا اللاهثة، فإذا بنا نجد بعضاً من رجال الأمن وقد هجموا علينا رغبة فى اعتقالنا، صرخ أخى فىّ قائلاً"  اهرب يا علاء، اهرب، واجعلنا نفخر بك"
كنت أشعر بالذعر لدرجة لم أتمكن معها سوى من تنفيذ الأمر، فأطلقت ساقى للريح وأنا أنظر خلفى بين الفينة والأخرى، فوجدت أخى يحاول تعطيلهم عن اللحاق بى، ومنذ ذلك الحين، لم أر أخى الحبيب ولم أسمع عنه خبرا..

امتلأت نفسى حزنا وغما، وشعرت أننى وحيد فى هذه الدنيا، حينها رنّ فى أذنىّ صوت أخى الحنون ( نحن عائلة، والعائلة تعنى ألا ننسى أحدا منا، وألا يفارق بعضنا بعضاً وحتى إن تعذرت الرؤية) حينها عدت إلى الميدان، وانضممت إلى المتظاهرين، وشعرت بنفسى تعود إلىّ من جديد، وبينما أنا هناك، إذا بطلقات عنيفة تنهال علينا، وكأنما السماء فتحت طاقتها فانهمر المطر غزيراً، لم أستطع أن أتصرف، فقد ألجم عقلى من المفاجأة، فلم أشعر إلا وشئ يندفع فى عينى ثم يخرج من الخلف تاركنى وراءه فى حالة يرثى لها وأنا أنظر إلى الأشياء بعين واحدة ما لبثت أن أغمضت حين فقدت الرشد، وعندما استيقظت وجدتنى هنا، وأنت تعرف الباقى..

نظر إليه الدكتور بحنان، فوجده قد أغمض عينه السليمة، وتتابعت أنفاسه فى صدره وكأنما قد بذل آخر جهده للإفضاء بهذا الحديث،، فربت على كتفه وهو يغالب دموعه وقال له :" لا عليك يا صغيرى، لن ترى منذ اليوم إلا ما يسعدك ، لقد تنحى الرئيس والأفراح تعم البلاد، ..
وما إن أتم جملته حتى أتت إحدى الممرضات وقالت:" إن شخصاً يدعى أحمد يسأل عن علاء الصغير"..
فتح علاء عينه وهتف بشوق :" أحمد، أخى أحمد"..
فسمع أخوه هذا النداء، وانطلق إليه غير عابئ بالجروح المؤلمة التى أصيب بها فى جسده..

وكان اللقاء بينهما مملوءاً بأروع المشاعر السعيدة والحزينة معاً،، فكانت دموعهما تسيل وهما يضحكان، وقال أحمد :" لقد نجحنا يا علاء، لقد تحررنا أخيراً، الآن يفخر بنا والدانا"
نظر علاء إلى السقف من جديد، وابتسم، ثم قال :" أخيراً أشعر أننى فى بلدى من جديد، وأن شيئاً لن يضايقنا بعد الآن"..

ثم خرج يتساند إلى أخيه ،، إلى حيث الأفراح والبهجة التى عمت جميع الأنحاء، احتفالاً بذلك النصر العظيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق